سر الاعتكاف ومقصوده وآدابه
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقد جاء في الصحيحين عن ابن عمر _رضي الله عنهما_ قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في العشر الأواخر من رمضان).
ففي هذا الحديث دليلٌ على مشروعية الاعتكافِ، وهو لزومُ مسجدٍ على وجهِ القربةِ من شخص مخصوص بصفة مخصوصة.
والاعتكافُ ليس بواجب، وإنما هو نافلةٌ من النوافل.
قال ابنُ القيم رحمه الله مبيناً المقصود من الاعتكاف
وشرع لهم الاعتكافُ الذي مقصودهُ وروحهُ عكوفُ القلبِ على الله _تعالى_ وجَمْعِيَّتُهُ عليه، والخلوةُ به عن الاشتغال بالخلق، والاشتغَالُ به وحده سبحانه؛ بحيث يصير ذكرُه، وحبُّه، والإقبالُ عليه في محلِّ هموم القلب، وخطراتهِ؛ فيستولي عليه بدلَها، ويصير الهمُّ كلُّه به، والخطراتُ كلُّها بذكره، والتفكرُ في تحصيل مراضيه، وما يُقرِّب منه؛ فيصير أُنْسُهُ بالله بدلاً عن أنسه بالخلق؛ فَيُعِدُّهُ بذلك لأُنسه به يومَ الوحشةِ في القبور حين لا أنيسَ لَه، ولا ما يَفْرَحُ به سواه؛ فهذا مقصودُ الاعتكافِ الأعظم) انتهى كلامه _ رحمه الله_.
آداب الاعتكاف:
وهذه جملةٌ من الآداب يحسن بالمعتكفين مراعاتُها، والأخذُ بها؛ ليكون اعتكافُهم كاملاً مقبولاً بإذن الله.
أولاً: استحضارُ النيَّةِ الصالحةِ، واحتسابُ الأجر على الله_عز وجل_.
ثانياً: استشعارُ الحكمةِ من الاعتكاف، وهي الانقطاع للعبادة، وجَمْعِيَّةُ القلب على الله _عز وجل_.
ثالثاً: ألا يخرج المعتكفُ إلاَّ لحاجته التي لا بد منها.
رابعاً: المحافظةُ على أعمال اليوم والليلة من سنن وأذكار مطلقة ومقيَّدة، كالسنن الرواتب، وسنَّة الضحى، وصلاة القيام، وسنَّة الوضوء، وأذكار طرفي النهار، وأذكار أدبار الصلوات، وإجابة المؤذن، ونحو ذلك من الأمور التي يحسن بالمعتكف ألا يفوته شيء منها.
خامساً: الحرصُ على الاستِيقاظ من النوم قبل الصلاة بوقتٍ كاف، سواء كانت فريضة، أو قياماً؛ لأجل أن يتهيأ المعتكف للصلاة، ويأتِيَها بسكينة ووقار، وخشوع.
سادساً: الإكثار من النوافل عموماً، والانتقالُ من نوع إلى نوع آخر من العبادة؛ لأجل ألا يدبَّ الفتور والملل إلى المعتكف؛ فَيُمْضِيَ وقته بالصلاة تارة، وبقراءة القرآن تارة، وبالتسبيح تارة، وبالتهليل تارة، وبالتحميد تارة، وبالتكبير تارة، وبالدعاء تارة، وبالاستغفار تارة، وبالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم تارة ،وبـ: لا حول ولا قوة إلا بالله تارة، وبالتدبُّر تارة، وبالتفكُّر تارة، وهكذا....
سابعاً: اصطحاب بعض كتب أهل العلم، وخصوصاً التفسير؛ حتى يستعانَ به على تدبُّر القرآن.
ثامناً: الإقلال من الطعام، والكلام، والمنام؛ فذلك أدعى لرقَّة القلب، وخشوع النفس، وحفظ الوقت، والبعد عن الإثم.
تاسعاً: الحرص على الطهارة طيلة وقت الاعتكاف.
عاشراً: يحسن بالمعتكفين أن يتواصوا بالحق، وبالصبر، وبالنصيحة، والتذكير، وأن يتعاونوا على البر والتقوى، والإيقاظ من النوم، وأن يَقْبَل بعضُهم من بعض.
وبالجملة فليحرص المعتكف على تطبيق السنَّة، والحرص على كل قربة، والبعد عن كل ما يفسد اعتكافه، أو ينقص ثوابه.
ملحوظات حول الاعتكاف:
أولاً: كثرةُ الزياراتِ وإطالتُها من قبل بعض الناس لبعض المعتكفين، وينتجُ عن ذلك كثرةُ حديثٍ، وإضاعةُ أوقات.
ثانياً: كثرةُ الاتِّصالات والمراسلات عبرَ الجوال بلا حاجة.
ثالثاً: المبالغةُ في إحضار الأطعمة؛ وذلك يفضي إلى ثِقَلِ العبادة، وإيذاءِ المصلين برائحة الطعام؛ فالأولى للمعتكف أن يقتصد في ذلك.
رابعاً: كثرةُ النومِ، والتثاقلُ عند الإيقاظ، والإساءةُ لمن يوقِظُ من قبل بعض المعتكفين، بدلاً من شكره، والدعاء له.
خامساً: إضاعةُ الفرصِ؛ فبعضُ المعتكفين لا يبالي بما يفوته من الخير، فتراه لا يتحرى أوقات إجابة الدعَاء، ولا يحرص على اغتنام الأوقات، بل ربما فاته
بسبب النوم أو التكاسل بعضُ الركعاتِ أو الصلوات.
سادساً: أن بعض الناس يشجع أولاده الصغار على الاعتكاف، وهذا أمرٌ حسن، ولكنْ قد يكون الأولادُ غيرَ متأدبين بأدب الاعتكاف، فيحصل منهم أذية، وإزعاج، وجلبةٌ وكثرةُ مزاح وكلام، وخروج من المسجد، ونحو ذلك.
فإذا كان الأمر كذلك فبيوتهم أولى لهم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم...