فقه الاعتكاف
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين وبعد: فإن الله شرع لعباده أنواعا وأجناسا من العبادات لطاعته وذكره وتقواه. ومن ذلك عبادة الاعتكاف في المساجد.
والاعتكاف لغة المكث واللزوم قال تعالى: (سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ). واصطلاحا: لزوم مسجد لطاعة الله تعالى. إذن فحقيقة الاعتكاف المكث في المسجد بنية التقرب لله والتلاوة والذكر والدعاء أمر زائد لا يشترط في صحته.
ولاعتكاف عمل مسنون قال تعالى: (أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُود). وأجمع الفقهاء على استحبابه وعدم وجوبه. قال ابن المنذر : (أجمع أهل العلم على أن الاعتكاف سنة لا يجب على الناس فرضا إلا أن يوجب المرء على نفسه الاعتكاف نذرا فيحب عليه). ومع كونه مستحبا لفعله صلى الله عليه وسلم إلا أنه لم يرد في فضل الاعتكاف حديث صحيح. قال أبو داود : (قلت لأحمد رحمه الله : تعرف في فضل الاعتكاف شيئا قال لا، إلا شيئا ضعيفا). فينبغي على المسلم أن يحرص على العمل بهذه السنة العظيمة حسب طاقته فإن لم يتيسر له العشر لظروفه اعتكف بعض الليالي على حسب استطاعته ليدرك الفضيلة. لكن يشترط للعمل بهذه السنة أن لا يضيع حقا لقريب كتمريض والد وولد أو رعاية أهل لا أحد يقوم عليهم أو طلب رزق واجب ونحوه ولا يترتب على فعله وقوع مفسدة محتملة فإن كان كذلك لم يشرع له الاشتغال بسنة مع تضييع واجب ووقوع في محرم.
ويباح للمعتكف قطع اعتكافه المسنون ولو لغير عذر لأنه لا يلزم إتمامه كصوم التطوع فإن احتاج للخروج قطعه ولا شيء عليه والأولى المضي فيه إلا إذا عرضت له مصلحة راجحة في الخروج.
ويجوز سائر السنة وقد حكى ابن البر الإجماع على جواز الاعتكاف سائر السنة إلا الأيام المحرم صومها. فلا حرج على المسلم الاعتكاف في أي يوم من السنة إلا أن الأفضل أن يجعل ذلك رمضان. وقد روي في السنة أنه صلى الله عليه وسلم كان يعتكف في العشر الأوائل ثم اعتكف العشر الأواسط ثم اعتكف العشر الأواخر وهو الذي استقر عمله عليه وكان آخر أمره كما أشارت عائشة لذلك بقولها: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتكف في العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله تعالى). وثبت أنه اعتكف الشهر كله كما في حديث أبي سعيد في مسلم وثبت أنه اعتكف عشرين يوما كما في حديث أبي هريرة في البخاري فكل هذا ورد. فمن اعتكف عشرين يوما أو الشهر كله كان موافقا للسنة لكن الأفضل الاقتصار على اعتكاف العشر الأواخر لمواظبة النبي صلى الله عليه وسلم عليها وتحري ليلة القدر فيها.
ومن كانت له عادة يواظب عليها في الاعتكاف ثم تركه لعذر طارئ استحب له قضاؤه في شوال أو غيره لفعل النبي صلى الله عليه وسلم كما ورد في الصحيح.
واختلف الفقهاء في أقل مدة يصح فيها الاعتكاف فاشترط مالك يوما وليلة وذهب الجمهور إلى أنه لا يشترط ذلك ويصح بقدر ما يصدق عليه عرفا كونه اعتكافا فإن مكث جزءا من الوقت من ليل أو نهار بنية الاعتكاف أجزأه ذلك وهذا هو الصحيح لأن الشارع لم يؤقت حدا لأقله ولأن حقيقة الاعتكاف تصدق عرفا في الزمن اليسير وحديث نذر اعتكاف عمر في الجاهلية لا دلالة فيه على التوقيت لاختلاف الرواة في لفظه والمحفوظ أنه ليلة ولأن ذلك وقع من عمر اتفاقا والشارع لم يؤقت به. قال يعلي بن أمية: (إني لأمكث في المسجد ساعة ما أمكث إلا لأعتكف).
ويبتدأ الاعتكاف في العشر من غروب ليلة إحدى وعشرين على الصحيح وينتهي بغروب ليلة العيد عند انتهاء رمضان لأن الليلة تابعة لليوم الذي يليه ولأن ليلة إحدى وعشرين داخلة في ليالي العشر فيشملها النص لحديث أبي سعيد في الصحيحين أما ما روي في الحديث من دخوله صلى الله عليه وسلم بعد الصبح فالمراد أنه صلى الله عليه وسلم دخل المكان الذي أعد له للاعتكاف فانفرد عن الناس وليس المراد ابتدأ الاعتكاف. قال إبراهيم النخعي: (إذا أراد أن يعتكف فلتغرب له الشمس من الليلة التي يريد أن يعتكف فيها وهو في المسجد). رواه ابن أبي شيبة. وهذا قول الأئمة الأربعة. وذهب بعض السلف إلى ابتدائه من صبيحة يوم إحدى وعشرين والأول أصح. وأما قول القاضي أبي يعلى يبتدأ من صبيحة يوم عشرين فقول غريب لا يعرف عن المتقدمين. فالسنة لمن أراد الاعتكاف في العشر دخول المسجد قبل غروب ليلة إحدى وعشرين.
واستحب بعض السلف للمعتكف البقاء بعد انتهاء الاعتكاف حتى يصلي صلاة العيد بثياب اعتكافه ثم يرجع لأهله ولكن لا يظهر لذلك دليل في السنة ولعل فعلهم هذا على سبيل الاجتهاد ووصل عبادة الاعتكاف بعبادة العيد والحرص على ختم العمل الصالح بالخير. والأقرب أنه لا يستحب ذلك لأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم فعله ولا هو مشهور عن أصحابه ولأن الأحاديث تدل بظاهرها على الخروج عند الغروب ولأن عبادة الاعتكاف عبادة مؤقتة تنتهي بإعلان العيد فمن زاد عملا فعليه بالدليل لأنه خرج عن الأصل الشرعي فتكون السنة الخروج عند الغروب إلى الأهل والاستعداد لأداء صلاة العيد بسننها وآدابها.
ويشترط لصحة الاعتكاف شروط مع الإسلام والعقل:
1- أن يكون في مسجد لقوله تعالى: (وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ). والمسجد يشمل كل موضع يدخل فيما وقف له فيصح الاعتكاف في الرحبة والمرافق والمنارة وغيرها مما يدخل في سور المسجد. فإن اعتكف خارج المسجد لم يصح.
2- أن ينوي الاعتكاف تقربا لله في مكثه. وينبغي أن تكون النية مقارنة لابتداء المكث عند دخوله المسجد. فإن مكث للراحة أو العادة أو العذر لم يصح.
3- أن لا يخرج من معتكفه إلا لحاجة الانسان التي لا بد منها كقضاء حاجة وطعام وشراب ودواء. لقول عائشة رضي الله عنها: (وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الانسان). وفي رواية: (أن عائشة قالت إني كنت لا أدخل البيت إلا للحاجة والمريض فيه فما أسأل عنه إلا وأنا مارة). وقال ابن المنذر: (أجمع أهل العلم على أن للمعتكف أن يخرج من معتكفه للغائط والبول). فإن خرج لغير ذلك لم يصح.
4- الطهارة من الحدث الأكبر من الجنابة والحيض والنفاس لأنه يشترط في إباحة المكث في المسجد الخلو من ذلك. قال تعالى: (وَلا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا). فإن أصابته جنابة اغتسل واستأنف.
واشترط بعض الفقهاء شروطا لا تثبت شرعا:
1- أن يكون في جامع والصحيح أنه يجزئ في كل مسجد لظاهر الآية. وما روي في ذلك من حديث عائشة: (ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع). في سنن أبي داود وغيره من الأحاديث فموقوف أو ضعيف لا يثبت رفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم مع مخالفة متنه للآية. وإن كان الأفضل الاعتكاف في الجامع لئلا يحتاج إلى الخروج لصلاة الجمعة.
2- أن يكون في المساجد الثلاث الحرام ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم والأقصى لحديث حذيفة: (لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة).رواه البيهقي. والصحيح أنه لا يشترط لأن هذا الحديث موقوف على حذيفة لا يصح رفعه ولمخالفته لظاهر الآية.
3- أن يكون فيه صوم لحديث عائشة: (ولا اعتكاف إلا بصوم). رواه أبو داود. والصحيح أنه لا يشترط لأن هذه الجملة مدرجة في الحديث ليست من كلام النبي صلى الله عليه وسلم ولأن النبي اعتكف في شوال ولم ينقل أنه صام فلا يجب فيه الصوم إلا إذا نذره كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: (ليس عليه صوم إلا أن يفرضه هو على نفسه). رواه ابن أبي شيبة.
ويبطل الاعتكاف بأمور:
1- قطع النية فإذا قطع المعتكف نية الاعتكاف بطل اعتكافه أما إذا تردد فلا يبطل.
2- الخروج إلى التجارة أو الدنيا أو الزيارة أو غير ذلك مما لا يحتاج إليه المعتكف في اعتكافه لأن ذلك ينافي حقيقة الاعتكاف. أما حاجة الانسان التي ليس له بد منها فتباح لأن الشرع رخص فيها. ولا حرج في شراء شيئ يحتاج إليه في طريقه إلى المسجد.
3- مباشرة المرأة لقوله تعالى: (وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ). واتفقوا على بطلانه بالجماع أما الاستمتاع دون الفرج فالصحيح أنه لا يبطل الاعتكاف به وإن كان منهيا عنه لقول ابن عباس: (إذا جامع المعتكف أبطل اعتكافه واستأنف). رواه ابن أبي شيبة. وكذلك يبطل أيضا بمباشرته إذا حصل منه إنزال بإتفاق الفقهاء. وأما مسه للمرأة بلا شهوة فيجوز ولا يؤثر على صحة الاعتكاف.
4- يبطل اعتكاف المرأة بنزول الحيض عليها لأن الحائض لا يحل لها المكث في المسجد.
وإذا بطل اعتكاف الانسان فلا شيء عليه ولا يلزمه شيء لأنه سنة في الأصل إلا أن يكون نذرا فيجب قضاؤه وما روي عن بعض السلف في الكفارة فاجتهاد لا دليل عليه.
ولا يبطل لاعتكاف بإخراج بعض البدن من رأس ويد ونحوه لما ثبت في الصحيحين عن عائشة: (أنها كانت ترجل النبي صلى الله عليه وسلم وهي حائض وهو معتكف في المسجد وهي في حجرتها يناولها رأسه).
ولا يجوز للمعتكف النوم في بيته فإن فعل بطل اعتكافه ولو كان يسيرا لأن مكثه في البيت ينافي حقيقة الاعتكاف لكن إن كان يرغب في ذلك لظرفه الخاص أو لمصلحة نوى الاعتكاف مدة النهار ثم خرج ليلا ثم استأنف الاعتكاف في اليوم الثاني وهكذا بحيث يكون لكل يوم نية خاصة فهذا فعل حسن موافق لمذهب الجمهور وفضل الله واسع. أما أن يكون ذلك بنية واحدة عن العشر جميعا فلا يصح لانقطاع الاعتكاف.
ورخص بعض الفقهاء كأحمد وغيره للمعتكف في اشتراطه عيادة المريض وشهود الجنازة ونحوه عند اعتكافه فإذا اشترط خرج لذلك ولم يبطل اعتكافه والأظهر أنه لا يصح والشرط لغو لا يثبت به الاستثناء ولا يؤثر في الحكم لأنه هذا الشرط لم يرد في السنة ولأنه ينافي معنى الاعتكاف وحقيقته ولأن الاعتكاف ورد في الشرع على صفة مخصوصة وهي لزوم المسجد من غير استثناء وقت معين وهذا مذهب مالك.
ويستحب للمعتكف الاشتغال سائر الوقت بالتلاوة والذكر والدعاء والصلاة والتفكر ويكره له كثرة الكلام وإضاعة الأوقات فيما لا فائدة فيه من مزاح وغيره. ويتأكد عليه اعتزال الخلق في معتكفه وعدم الكلام معهم إلا فيما فيه حاجة أو كان عارضا فلا حرج عليه في الكلام اليسير الذي لا يخالف الشرع.
وكذلك لا يشتغل بطلب العلم والتعليم قال ابن رجب: (ولهذا ذهب الإمام أحمد إلى أن المعتكف لا يستحب له مخالطة الناس حتى ولا لتعليم علم وإقراء قرآن بل الأفضل له الإنفراد بنفسه والتخلي بمناجاة ربه وذكره ودعائه) لكن إن احتاج الانسان لمذاكرة مسألة وكان وقتا عارضا فلا حرج. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف ضرب له خباء فاعتزل الناس في غير الصلوات كما ثبت في البخاري.
ولا حرج على المعتكف أن يزوره زوجه في معتكفه ليلا ويحدثه ساعة من الوقت ليتفقد أحوال أهله ويدخل الأنس عليهم ثم يمشي معه ليوصله لما ثبت في الصحيحين عن صفية رضي الله عنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم معتكفا فأتيته أزوره ليلا فحدثته ثم قمت لأنقلب فقام معي ليقلبني).
ويباح للمعتكف التطهر وأخذ الشعر والتزين والتطيب ولبس نظيف الثياب ولا كراهة في ذلك لكن لا ينبغي له المبالغة في ذلك. ويباح له الأكل والشرب في المسجد بشرط المحافظة على نظافة المسجد. وإن كان يتيسر له فعل ذلك في المسجد من غير ضرر كان مكثه أولى من خروجه إلى البيت.
وبعض الناس هداهم الله لا يراعون حق الله في الاعتكاف فتراهم يكثرون من اللهو والمزاح والكلام مع الأصحاب واستعمال الهاتف وتمضية الوقت فيما لا فائدة فيه ومنهم من يكثر الجدال والمراء مع الغير فهؤلاء تلاعبوا في هذه العبادة واستخفوا بشعيرة الله وهم مخطئون في تصرفهم فإما أن يلتزموا بالسنة وإما أن يخرجوا من المعتكف ولا يسيئوا لأنفسهم ويؤذوا الآخرين.
وينبغي للمعتكف في هذه الخلوة الشرعية أن يكثر من محاسبة النفس والتوبة وإطالة الفكرة والعبرة وعمارة قلبه بالأعمال النافعة من يقين ورجاء وخوف ومحبة وتوكل وغيره ليحقق حكمة الاعتكاف وثمرته فإن الاعتكاف شرع لإصلاح القلب والجوارح وتزكيته والانقطاع عن علائق الدنيا وشواغل الخلق وانكسار النفس وصفائها وتطهيرها من أدران الذنوب والشهوات قال ابن رجب: (فمعنى الاعتكاف قطع العلائق عن الخلائق للاتصال بخدمة الخالق وكلما قويت المعرفة بالله والمحبة له والأنس به أورثت صاحبها الانقطاع إلى الله تعالى بالكلية على كل حال).
ويسن للمرأة الاعتكاف في المسجد لما ثبت من اعتكاف أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته كما ورد في الصحيحين من حديث عائشة.
ولكن يشترط لذلك شروط:
1- أن يكون اعتكافها في مكان خاص بالنساء لا يطلع عليه الرجال أما إذا حصل اختلاط فيحرم.
2- أن تأمن على نفسها الفتنة فإن خشيت على نفسها الفتنة لكون المكان غير آمن أو منعزل أو ليس للمسجد قيم أمين حرم عليها الاعتكاف.
3- أن لا يكون في اعتكافها تضييعا لحق والد أو رعاية ولد أو بر ونحوه فإن أدى اعتكافها إلى ذلك حرم.
4- أن يكون ذلك بإذن الزوج فإن اعتكفت بغير إذنه كانت عاصية لتفويت حقه في الخدمة والاستمتاع وله إخراجها من المسجد.
وقل أن تتحقق هذه الشروط للمرأة مما يجعل حصول الاعتكاف فيه صعوبة وحرج ونصيحتي للمرأة المسلمة المستقيمة على الطاعة الاقتصار في هذا الزمن على التعبد والخلوة في البيت لأنه أحوط لدينها وأستر لعورتها وأبعد لها عن الشبهات وقد يكون في ذلك خشوع وتدبر واجتهاد وإخلاص فيفضل على غيره.
وقد رخص الحنفية للمرأة في الاعتكاف في بيتها والصحيح أن الاعتكاف لا بشرع إلا في المسجد ولا يصح في البيوت لأن هذه العبادة من خصائص المسجد لقوله تعالى: (وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِد). وقد أنكر ابن عباس الاعتكاف في البيت وقال إنه بدعة. ولو كان جائزا للمرأة لأذن لها الشرع أن تعتكف في بيتها كما رغبها في صلاتها في بيتها لأنه أستر وأصون للمرأة وأبعد عن الفتنة ولكن لم ينقل ذلك فدل على عدم شرعيته وهذا قول الأكثر. وكذلك المريض المقعد لا يصح اعتكافه في البيت.