لماذا العبادة؟!
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
هذه خاطرة ترافقني منذ أيام، وقد زاحمها وسبقها إلى الكتابة خواطرُ أُخَر، وقد استخرتُ الله عزّ وجلّ في كتابتها اليوم فأذن، فله الفضلُ والمنّةُ والثناءُ الحَسَن.
يقول الله تعالى: (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون) [الأنبياء: 25]
ونحن نكرّر في كل ركعة من ركعات صلاتنا: (إياك نعبد وإياك نستعين) [الفاتحة:05]
والسؤال الذي نحن بصدده: لماذا العبادة؟!
ولست أقصدُ إلى الإجابة المباشرة والصحيحة والتي هي: نعبد ربَّنا رجاءَ رحمته وجنّته وخوفَ عقابه والسعير، وإنما أقصدُ إلى الأثر الذي يأتينا أو ينبغي أن يأتينا في الدنيا نتيجةَ عبادتنا لله عزّ وجلّ.
نحن نعبد الله لله، ونعبد الله لأنفسنا، ونعبد الله للناس، ونعبد الله لبقية الكائنات!
مهلاً! لا تعجل!
نحن نعبد الله لله، لأنّ الله خلقنا لعبادته، وأَمَرَنا أن نعبده لأنّه خلقنا، وهذه ثنائيةٌ لطيفةٌ نجدها في الآيتين:
(وما خلقتُ الجنّ والإنس إلا ليعبدون) [الذاريات: 56]
(يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون) [البقرة: 21]
ونعبد الله وفاءاً بعهد الله الذي أخذه علينا ونحن في عالم الذرّ!
(وإذ أخذ ربّك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى) [الأعراف: 172]
ونعبد الله برهاناً على إسلامنا لله وارتباطنا به!
(قالوا نعبد إلهك وإله آباءك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلهاً واحداً ونحن له مسلمون) [البقرة: 133]
ونعبدُ الله لأنفسنا!
أي لصالح أنفسنا وصلاحها، فالله غنيّ عنّا، ولكنّه طلب أن نعبده لنسمو ونرقى، ونحيا حياة طيبة، ونفوز في الآخرة.
(ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) [الملك: 14]
(من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينّه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) [النحل: 97]
خلق الله الإنسان جسداً ونفخ فيه الرّوحَ، التي بها الحياة والتي علمُها عندَه وحدَه. وكما أن للجسد غذاء فإن للروح غذاء! غذاء الجسد يأتي من الأرض التى منها خُلق، وغذاء الروح يأتي من السّماء، من الارتباط بالله بالعبادة.
حين يغذّى الإنسان جسده دون روحه يفقد التّوازن! ويعيش متعباً حيران!
اسمع إلى حبيبك صلى الله عليه وسلم: "وجُعلت قرّة عيني في الصلاة" و "أرحنا بها يا بلال"
واسمع إلى معاذ بن جبل رضي الله عنه يقول حين احتضاره: "اللهم إني قد كنت أخافك فأنا اليوم أرجوك، اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب الدنيا، وطول البقاء فيها لجري الأنهار، ولا لغرس الأشجار، ولكن لظمأ الهواجر (يقصد الصوم)، ومكابدة الساعات (أي قيام الليل)، ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر"
وجاء رجل إلى الحسن البصريّ رضي الله عنه فقال له: إني أعصي الله وأذنب، وأرى الله يعطيني ويفتح علي من الدنيا، ولا أجد أني محروم من شيء فقال له الحسن: هل تقوم الليل فقال: لا، فقال: كفاك أن حرمك الله مناجاته.
ونعبد الله للنّاس!
أي أنه ينبغي أن يكون للعبادة أثرٌ حسنٌ في علاقتنا بالناس!
فرائض الإسلام الأربعة جُعلت لتزكية النفس وتحسين الخلق!
(إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) [العنكبوت: 45]
(خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكّيهم بها) [التوبة: 103]
"من لم يدَع قولَ الزّور والعملَ به فليس لله حاجة في أن يدَعَ طعامَه وشرابَه"
(الحجّ أشهرٌ معلومات فمن فرض فيهن الحجّ فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحجّ) [البقرة: 197]
فالعبادة الحسنة لابدّ أن تؤدّي إلى معاملة حسنة وخلق حسن!
"قال رجل: يا رسول الله إن فلانة تكثر من صلاتها وصدقتها وصيامها غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها، قال: هي في النار!"
ونعبد الله لبقية الكائنات!
أي لنشاركَ بقية الكائنات تسبيحَها بحمد رب الأرض والسموات!
(وإن من شيء إلا يسبّح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم) [الإسراء: 44]
فلوحة المفاتيح التي أكتب بها هذه الكلمات شيء! وهو يسبّح بحمد الله! وأنا حين أعبدُ الله أشاركُه التسبيح! فتنشأ بيني وبينه، وبيني وبين كلّ الأشياء علاقةٌ من الأخوّة والودّ لاشتراكنا في التسبيح!
ويبقى أخيراً أن نقول:
- لقبول العبادة لابد من الإخلاص والصّواب، لأن الله يحبّ أن يُعبدَ وحدَه، ويحبّ أن يُعبدَ كما أَمَر.
- كلّ عمل هو عبادةٌ لله إذا كان صالحاً ورافقته نيةٌ حسنةٌ!
- العبادة أمرٌ ينتظم شؤونَ الحياة جميعَها، أي أنّها منهجُ حياة!
(ونحن له عابدون) [البقرة: 138]، (وكانوا لنا عابدين) [الأنبياء: 73]
اللهم اجعلنا لك عابدين.
دمتم صالحين.