مخاوف الطغاة
د.أحمد الصاوي
انتشرت منذ الإعلان عن وضع الرئيس "المتخلي" تحت الإقامة الجبرية في "بؤرة" شرم الشيخ همهمات وغمغمات خليجية عن عدم قبول نخب الحكم بها بمثل هذا الإجراء وتطايرت تهديدات ووعود بمعاقبة الحكومة المصرية إذا ما مضت قدما في إجراءات محاكمة مبارك ورغم النفي المستمر لصحة مثل تلك التهديدات فإن ثمة ما يشبه اليقين الضمني بأن دول الخليج العربي تنظر بغير عين الرضا لما يتم من تحقيقات حول ثروة مبارك وآله ولعل واقعة التأجيل المفاجئ لزيارة رئيس الوزراء المصري لدولة الإمارات خير دليل على وجود هذا التململ الخليجي.
وقد ووجهت تلك الاعتراضات الإفتراضية بحدة واضحة من أغلب المصريين تحت لافتة أنه ليس من حق أحد أن يتدخل في الشأن المصري الداخلي ,وهو إعتراض له وجاهته القانونية بإعتبار أن محاكمة مبارك هي من شئون السيادة لدولة مستقلة وعضو في الأمم المتحدة , ولكن فات الكثيرون حقيقة هامة وهي أن ما يجري في مصر هو وبإمتياز "شأن عربي داخلي" تتفاعل معه الجماهير العربية كافة وترى لنفسها حقا في مراقبته وهذا أضعف الإيمان , وفي تأييده أو الاعتراض عليه .
وربما يكون من المناسب في تلك اللحظة التاريخية أن ننظر لما هو أبعد من الحدود السياسية الوهمية للدول العربية حيث الإصطفاف الجماهيري الواسع على ضفة الثورة ضد الإستبداد الفاسد أو الفساد المستبد لثلة من الحكام ينتمون بالجملة للماضي وما يواجهه من تضامن "وحدوي" بين الجمهوريات والملكيات والمشيخات العربية ,ذلك الإصطفاف الذي أسقط في لحظة تاريخية فريدة كل مزاعم الإقليمين بأن زمن القومية والعروبة والوحدة العربية قد ولى ومضى .
لقد أعادت روح الثورة الممتدة من تونس لمصر والمتفجرة بليبيا واليمن وسوريا والكامنة بعد في كل بلد عربي الإعتبار لحقيقة أن الشعب العربي أينما تنازعته أعلام الدول القطرية ومسمياتها يبقى شعبا واحدا لا تحول الحدود وجوازات السفر دونه ودون التفاعل الخلاق مع كل ما يجري من أحداث ووقائع في وطنه العربي.
وما تحفظ البعض من الدول العربية على ما يجري من تحقيقات مع أسرة مبارك أبا وأما وأبناء إلا تعبير عن وعي كامن وصحيح بحقيقة أن ما يجري بمصر سيكون له صداه في المحيط العربي بأسره وأن عجلة الثورة ستدور لا محالة مثيرة الأسئلة المشروعة عن جدوى الإستبداد وعن فداحة فاتورة الفساد.
وزيادة على ذلك فإن ثمة مخاوف من إستفاقة مصر ,الإقيلم القاعدة ,كما كان يحلو للدكتور البيطار أن يسميها , من إغماءة طويلة أرادها مبارك لمصر وسعى الكيان الصهيوني لإدامتها مثلما استراحت معها دول عربية ليس من مخاطر التوسع الناصري كما كان يحلو لأدبيات المخابرات المركزية أن تسمي المد القومي , ولكن من تكلفة مطالبات شعوبها باللحاق بركب الثورة والتقدم ومن إزعاج وجود نموذج عربي في مصر قابل للنجاح والاستمرار.
ليست عدوى الثورة وحدها التي تخيف الحكومات العربية , رغم أن تكلفة إنتاج وتداول مسكنات مرجئة أو معطلة لها ليست بالقليلة , ولكن التغير المرتقب في موازين القوى الإقليمية بعودة مصر إلى ممارسة ولو جزء من دورها الطبيعي في محيطها العربي بعد فترة من التقزيم المتعمد لأدوارها الحيوية والتي بلغت قمتها وذروة الإنحدار فيما كان يجري على تماس من "رفح" المصرية من قصف وعدوان صهيوني على الفلسطينيين بغزة وما جرى من إستهانة بمصر وحقوقها التاريخية الثابتة في مياه النيل على البعد من حدودنا الجنوبية فيما وراء السودان.
ومهما يكم من أمر تبقى تل أبيب أكثر الأطراف وعيا وتضررا وإفصاحا عن مخاوفها من تبعات ماجرى وسيجري لمبارك وزمرته وهو أمر يستدعي يقظة إستراتيجية لما يمكن أن تتعرض له الثورة وهي بعد في مهدها وليدا في محيط توطنت فيه أوبئة الفساد من كل صنف ونوع.