أول استقلال لمصر عن الخلافة العباسية
أحمد بن طولون هو من أصل تركي، حيث نشأت أسرته في بخاري، و كان والده رئيساً للحرس الخاص للخليفة المأمون.
ولد احمد بن طولون في سر من رأي (سامراء) سنة 220 هج / 835 م، و كان منذ صغره متصفاً بالرزانة و الولاء و حفظ القرآن و التفقه في الدين.
احتل أحمد بن طولون مركزاً بارزاً في بلاط الخليفة العباسي، فعينه والي مصر باكباك (بقمق) التركي نائباً له في مصر. فقد كان من عادة ولاة الأمصار أن يبقوا في بغداد و يرسلوا نواباً لهم إلي الأمصار، و ذلك حتي يبقي الولاة قريبين من الأحداث المهمة، و حتي لا تحاك ضدهم الدسائس عند الخليفة فيعزلوا عن مراكزهم.
جاء احمد بن طولون إلي مصر سنة 254 هج/ 868 هج، و تولي شئون الفسطاط فقط، ثم ما لبث أن وسع والي مصر التالي يارجوخ سلطات أحمد بن طولون لتشمل شئون مصر كلها.
عُرف عن ابن طولون العدل و الكرم و رفع المظالم عن الناس. و يحكي ابن تغري أيضاً أنه عندما تجمع لديه خراج مصر، عرف أن فيها مائة ألف دينار من المظالم يجب أن يردها. و لكن كاتبه ابن دشومة ( أو دسومة) أشار عليه ألا يرد المظالم حتي لا تؤثر في خزانة الدولة. ففكر ابن طولون في رأي ابن دشومة. ثم رأي في منامه أحد أصدقائه كان قد مات في طرسوس و هو يرد هجمات الروم، قال له : بئس ما أشار عليك ابن دشومة في أمر الانفاق، و اعلم أنه من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه، فأرجع إلي ربك، و إن كان التكاثر و التفاخر قد شغلاك عنه في هذه الدنيا. فأمض ما عزمت عليه و أنا ضامن لك من الله تعالي أفضل العوض منه قريباً غير بعيد. فلما أصبح ابن طولون رد كل المظالم إلي أهلها و لم يلتفت إلي رأي كاتبه.
و في أحد الأيام أثناء رحلة صيد له، غرست رجل فرسه في الرمال، فلما أزالها انكشف له كنز من المال يقدر ألف ألف دينار، فاستخدمها في بناء الجامع و البيمارستان. ( النجوم الزاهرة في ملوك مصر و القاهرة- ابن تغري- ج3 )
نزاع أحمد بن طولون مع الموفق طلحة و ضمه الشام
عندما خرج أحمد بن طولون 265 هج لقتال أمير انطاكية الذي تمرد علي حكمه، خلف ابنه العباس علي مصر. و لكن قواده زينوا له أن يثور علي والده و يخرج عن طاعته. وبالفعل استغل العباس غياب والده في قتاله في الشام، و أخذ كل ما في بيت المال و توجه إلي برقة.
فلما رجع احمد بن طولون إلي مصر، ارسل جيشاً لقتاله. فقاتلوه و قبضوا عليه هو وقواده و ساقوه إلي أبيه.
فأمر أحمد بن طولون بحبسه حتي مات في السجن، و أمر بضرب اعناق قواده الذين أغروه بالخروج علي ابيه.
كما أنه وجد منافسة شديدة من ابن المدبر العامل علي خراج مصر الذي كان يدبر له المكائد عند الخليفة المعتمد. فلما وقعت إحدي الرسائل التي بعث بها ابن المدبر إلي الخليفة العباسي و فيها كثير من الكيد لأحمد بن طولون، أمر قائده بالشام أن يقبض علي ابن المدبر و يحبسه.
أما نزاعه الأكبر فوقع مع الموفق طلحة أخي الخليفة العباسي المعتمد. و أصل هذا النزاع أن الخلافة العباسية في بغداد كانت تموج بفتنة كبيرة تكاد تعصف بالعباسيين، و هي ثورة الزنج من العبيد الأحباش الذين تمردوا علي أمرائهم الأتراك المسيطرين علي كل أمور الخلافة. و كانت الغلبة للزنوج في معاركهم مع العباسيين في بادئ الأمر. ولكن الخليفة المعتمد قام بحشد كل موارد الدولة لحرب الزنج و قاد أخوه الموفق طلحة الحرب عليهم.
و لكن موفق طلحة استبد بالأمر من دون الخليفة و أصبح الآمر الناهي. لذلك عقد الخليفة المعتمد اتفاقاً سرياً من أحمد بن طولون ينتقل بمقتضاه إلي مصر و ينقل مركز الخلافة العباسية إليها بعيداً عن استبداد الموفق و ثورات الزنوج و العلويين و الخوارج.
و لكن تفاصيل الاتفاق وقعت في يد الموفق، فقام بحبس أخيه الخليفة و قطع الاتصال معه. كما أنه بدأ يكيد لأحمد بن طولون في مصر، و أمر بلعنه علي المنابر.
و ظل الأمر كذلك بينهم حتي توفي أحمد بن طولون سنة 270 هج، و تولي بعده ابنه ابو الجيش خمارويه الذي انهي النزاع مع الموفق طلحة و عقد معه صلحاً.
أعمال أحمد بن طولون في مصر
أراد أحمد بن طولون أن يجعل لمصر حاضرة كبيرة تنافس سر من رأي (سامراء) في العراق. فبني مدينة القطائع فوق جبل يشكر في المكان الذي يسمي الآن بقلعة الكبش و بتلال زينهم. و سميت كذلك لأن ابن طولون أقطعها قطعاً بين حاشيته و قادته. و شيد فيها القصور و المستشفيات و الملاجئ. و جبل يشكر هذا سمي باسم أحد القبائل العربية و هي يشكر بن جديلة، و ثارت حوله الأقاويل أنه الجبل الذي ناجي موسي عليه السلام ربه من فوقه.
و في زمن ابن طولون كان هذا الجبل يطل مباشرةً علي النيل. لأن النيل في ذلك الوقت كان إلي الشرق من مجراه الحالي، فكان يمر في وسط ما نسميه الآن بمصر القديمة. و بمرور الوقت كونت كتل الطمي الذي يأتي مع النيل مزيداً من الأرض في الشرق و تحول مجري النيل بالتدريج إلي الغرب حتي وصل إلي مجراه الحالي.
كما بني ابن طولون جامعه العريق الذي مازال باقياً حتي الآن، و هو بحق شيخ جوامع القاهرة لأنه أقدم المساجد التي بقيت بنفس التخطيط و العمارة الذي بني عليه منذ إنشائه. و لقد بناه ابن طولون بين مصر (الفسطاط) و قبة الهواء التي كانت مكان قلعة الجبل ( قلعة صلاح الدين).
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]جامع ابن طولون شيخ جوامع القاهرة
و لقد ذكر ابن تغري في النجوم الزاهرة أنه لما تم بناء الجامع رأي أحمد بن طولون في منامه كأن الله تعالي قد تجلي لما حول الجامع و لم يتجل للجامع، فسأل المعَبٌرين فقالوا : يخرب ما حوله و يبقي قائماً وحده، قال : من أين لكم هذا؟ قالوا: من قوله تعالي : “فلما تجلي ربه للجبل جعله دكا”. و قد كان، فقد خربت القطائع كلها و لم يبق إلا الجامع.
كما أصلح مقياس النيل سنة 259 هج، و بني في جزيرة الروضة حصناً منيعاً، و بيمارستان ( مستشفي) لعلاج جميع الأهالي بدون أجر.
و لم يبق من مدينة القطائع الآن إلا جامع ابن طولون، لأن القائد العباسي محمد بن سليمان الكاتب عندما جاء لإعادة مصر إلي السلطة المباشرة للخليفة العباسي، قام بتخريب كل آثار بن طولون و أحرق مدينته، و لم يبق منها إلا الجامع.
و في عام 270 هج ثار أهل طرسوس علي حكم ابن طولون، فخرج لإخماد الثورة و لكنه فشل، و اشتد عليه المرض، فعاد إلي الفسطاط في جمادي الآخر 270 هج و توفي هناك، و دفن بسفح المقطم.
خلف ابن طولون علي الحكم ابنه خمارويه