شهدت نهاية الألفية الثانية، وبداية الألفية الثالثة تغييرًا فى رموز قادة عدد من الدول العربية، بعد سنوات طويلة من الجمود والثبات، ففى فبراير 1999 تولى الملك عبدالله الثانى مقاليد الحكم فى الأردن، بعد وفاة والده الملك الحسين بن طلال، وبعدها بشهر تولى الملك حمد بن عيسى آل خليفة إمارة البحرين، وفي أبريل من العام نفسه تولى عبد العزيز بوتفليقة رئاسة الجزائر، وبعد مرور أربعة أشهر تولى العاهل المغربى محمد السادس الحكم فى المغرب، خلفا لوالده الحسن الثانى، وفى يوليو عام 2000 تسلم بشار الأسد مقاليد الحكم في سوريا.
انفرجت وقتها أسارير الإصلاحيين العرب، وتزايدت الأمال فى حدوث نقلة فى منظومة العمل العربى المشترك، بعد أن ضُخت دماء جديدة فى جسد الوطن العربي العليل، خاصة وأن غالبية القادة الجدد، كانوا فى عمر الشباب - باستثناء الرئيس الجزائرى- كما أنهم جميعا تلقوا تعليمهم فى الغرب، وعايشوا أنظمة الحكم فى العالم الحر وتأثروا بها، وعزز من هذه الآمال، تبنى غالبية القادة فى بداية عهدهم خطوات إصلاحية وتعهدهم بالسير قدما فى عملية الإصلاح السياسيى والإقتصادى وإطلاق الحريات المدنية .
وبدا أن العمل العربى - العربى مقبل على مرحلة جديدة تلبى طموحات الشعوب العربية.
لكن هذه الآمال سرعان ماتبددت، بعد فترة وجيزة، وبدأت حدة الصراعات العربية العربية فى تزايد، واتسعت الفجوة بين الأنظمة الحاكمة، ودخلت المنطقة فى دوامة من الخلافات حول قضايا عدة، أهمها ما سمى بالحرب على الإرهاب، عقب زلزال الحادى عشر من سبتمبر، وتعقد مسار عملية السلام فى الشرق الأوسط، وازدادت الخلافات العربية عمقا عقب الغزو الأمريكى للعراق، وللمرة الأولى ظهرت على السطح كارثة تقسيم الوطن العربى إلى معسكرى الاعتدال والممانعة .
رحل العقد الماضى غير مأسوف عليه ورغب الكثيرون من القوميين العرب محوه من ذاكرة العمل العربى المشترك، ولما لا وقد شهد غزو العراق وانهيار عملية السلام فى الشرق الأوسط واغتيال ياسر عرفات وتدمير لبنان خلال الحرب الإسرائيلية صيف عام 2006 وانقسام السودان وخفت الصوت والدور العربى تاركا الساحة لتركيا وإيران ليزداد نفوذهما فى المنطقة.
وتعلقت آمال كثير من العرب مع حلول تباشير عقد جديد فى أن يلعب القدر دوره مرة أخرى فى تغيير الرموز السياسية، كما حدث فى بداية الألفية الثالثة ودعم هذه الأمال تقدم الغالبية العظمى من القادة العرب فى العمر ودفع اليأس بأعداد غير قليلة للتسليم بسيناريوهات التوريث ليس عن قناعة بأن المورّثُ المرتقب يحمل لها الخير إنما أملا فى إحداث أى تغيير حتى وإن كان فى الوجوه فقط.
ولم يدر بخلد أكثر المتفائلين أن يفجر انتحار شاب تونسى أضناه فقر وعسر الحال وأعياه صلف أجهزة حكومية جعلت من هدر كرامة المواطن منهاجا تسيرعليه، صرخات غضب تراكمت فى الصدور طوال عقود ليس فى تونس فحسب بل وتنتشر فى أرجاء الوطن العربى.
ثارت تونس كلها على نظام امتهن كرامته 23 عامًا، ولم تهدأ ثورة الشعب حتى هرب بن على لينجو بنفسه من بطش ثوار لم تثنيهم تنازلات بن على ووعوده الإصلاحية عن الإطاحة به.
جاء سقوط بن على كصاعقة على كل الأنظمة العربية، وسارعت جميعها إلى التأكيد على أنها ليست كتونس، وأن كل دولة حالة مستقلة ومنفردة، وتبارت جميعها فى إظهار مدى الفوارق التى تميزها عن النموذج التونسى، حرية هنا وديمقراطية هناك، انتعاش اقتصادى فى هذه، ووعود تبشر بخطوات متسارعة على طريق الإصلاح فى تلك.
لم تع الأنظمة العربية أن ما حدث فى تونس حطم جدار الصمت العربى، وألهم جموعًا نزعت عنها الخوف، وخرجت تعلى راية الرفض لأنظمة شاخت وترهلت.
وماهى إلا أيام قليلة حتى جاءت ثورة 25 يناير فى مصر، وخرجت الحشود إلى الشوارع فى مظاهرات سلمية ترفع شعارًا واحدًا "الشعب يريد إسقاط النظام"، ولم يستطع نظام مبارك الذى استبد حكمه 30 عامًا أن يصمد أمام المد الثورى المتزايد أكثر من 18 يومًا ونُحى عن الحكم.
نجحت مصر وتونس فى أن تحقق أحلام طال انتظارها عقودا بل جسد مجرد التفكير فيها يوما خطيئة لا تغتفر وأزاحت عن صدور الشعبين نظامين عدا من أعتى الأجهزة القمعية فى العالم.
ويرى كثيرون أن مصر ربما احتاجت إلى تونس لكى تتحرك لكن الوطن العربى احتاج إلى مصر ليتحرك وهو ما أكدته وقائع الأحداث فى عدد من الأقطار العربية فلم تكد الشعوب العربية، تنتهى من احتفالاتها بنصر الثورة المصرية حتى بدأت دعوات التغيير تجتاح الوطن العربى وخرجت الجماهير التى لم ترد أن تضيع فرصة تاريخية طال انتظارها؛ لتؤكد أنها قادرة على التغيير تدرك وتعى جيدا ماذا تريد؟
وامتدت الاحتجاجات على الزعماء العرب فى اليمن وليبيا والبحرين وعمان والأردن والمغرب والجزائر والعراق والسعودية، خرجت الجماهير لتطالب بالتغيير والإصلاح السياسى لتزلزل قلاع الديكتاتورية والقمع والفساد فى أرجاء الوطن العربى.
واللافت للنظر أن الأنظمة العربية التى كانت تضن على شعوبها حتى بحق التعبير عن الرأى أجبرت جميعها على الرضوخ إلى مطالب المتظاهرين، وإن اختلفوا فى الطرق فمنهم من استجاب لصوت العقل، وبدأ فى الشروع فى إجراء إصلاحات دستورية وتشريعية وإلغاء قوانين الطوارئ والقوانين المقيدة للحريات وإجراء تعديلات وزارية، تم خلالها الإطاحة بالوجوه المكروهة شعبيا مثل الجزائر وعمان والمغرب وسوريا واليمن.
ومنهم من لجأ إلى سلاح المال كدول الخليج التى طالما أحسنت استخدام هذا السلاح التقليدى، كلما بدأ الحديث عن الإصلاح السياسي لكنه سلاح أشبه بالمسكنات التى ينتهى مفعولها سريعا ويرى كثير من الخبراء والمراقبين أن الأوضاع فى دول الخليج أصبحت كقنبلة موقوتة ضبط مؤشرها فى عد تنازلى على مقياس المال بما يعنى أنها ثورات مؤجلة لمرحلة لاحقة .
ومن الحكام العرب من لجأ إلى استعمال القوة المفرطة ضد شعبه كالقذافى الذى أمعن فى القتل بلا هوادة أو رحمة لدرجة استدعت تدخل المجتمع الدولى بالقوة لإنقاذ الشعب الليبى من قبضته الدامية.
ظل الركود السياسي قاسما مشتركا في العالم العربي لعقود من الزمان لكن نجاح الثورتين المصرية والتونسية أعطى زخمًا كبيرًا للمشهد السياسي العربى، وجاءت انتفاضات الشعوب العربية فى هذه اللحظة التاريخية لتبرهن على أن الشباب العربى أصبح بعد عقود من التخبط والبحث عن الذات يملك وعيا سياسيا وإرادة قوية ليحقق أهدافه.
ما حققه نجاح الثورتين المصرية والتونسية بعيدا عن الإطاحة بنظامين وصفا بأنهما من بين أكثر النظم قمعية فى المنطقة رسالة إلى كل الأنظمة والقادة العرب أن التغيير قادم قادم لا محالة، سواء رغبوا أو امتنعوا وسواء فهموا أو استعصى الأمر على فهمهم الشعوب، وأن الشعوب العربية لن تقبل أن تعود عقارب الزمن إلى الوراء وأن آمال وتطلعات الشباب لن يحدها حدود بعد الآن، ولن تقبل من حكامها بعد ذلك سوى الإصلاح أوالرحيل.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]