تعالوا نتفق أولاً على أنه ليس كل مشجعى الأهلى أو الزمالك أو الإسماعيلى أو الاتحاد من المجرمين أو الخارجين على القانون وقواعد الالتزام والأخلاق مهما كانت درجة تعصبهم لناديهم، وأن كل هؤلاء المشجعين المتعصبين ليسوا من الألتراس.
وتعالوا نتفق أيضاً على أن أعضاء الألتراس التابعين لأى فريق ليسوا مدمنى مخدرات، ولا هم شباب صعاليك ومنحرفين .. وهناك كثيرون جداً من المتعصبين للأندية - سواء كانوا ينتمون للألتراس أم لا - هم عشاق حقيقيون لأنديتهم.
ولم يكن أبداً هذا العشق هو المشكلة .. لكن المشكلة الحقيقية هى التصور الخاطىء لحدود ومفاهيم ومعانى هذا العشق .. المشكلة الحقيقية هى أن يتحول التصور إلي أن الأهلى أو الزمالك هما البديل للوطن .. أو النادى نفسه يصبح هو الوطن .. هو القضية الأولى والأخيرة والهم الأكبر والشاغل الحقيقى الذى تهون من أجله المتاعب والمصاعب والجروح والهموم.
هناك الآن كثيرون وكثيرات أصبحوا يمنحون كرة القدم وقتاً وفكراً وانشغالاً واهتماماً أكثر مما تستحقه هذه اللعبة مهما كانت جميلة
بعضكم سيسخر من هذا الكلام .. لكننى بالفعل لا أبالغ أو أتوهم ما هو ليس صحيحاً أو حقيقياً .. فهناك الآن كثيرون وكثيرات أصبحوا يمنحون كرة القدم وقتاً وفكراً وانشغالاً واهتماماً أكثر مما تستحقه هذه اللعبة مهما كانت جميلة أو ضرورية .. شبان وفتيات ورجال ونساء باتوا يبدأون صباح كل يوم بأخبار ناديهم ونية الدفاع عنه والحرص على عدم المساس به .. لم يعد فى فكر أى أحد منهم إلا النادى وأحواله وقضاياه .. كأنه لم تعد هناك فى حياتهم أى هموم أو أحلام أو قضايا أخرى قد تكون أهم وأجدى .. لا حديث إلا عن النادى .. لا تفكير إلا فى النادى .. لا حلم إلا بانتصار النادى ولا خوف أو قلق إلا أن يخسر النادى .. الحياة نفسها باتت تجرى على إيقاع مباريات النادى.
وبعض هؤلاء يقومون بذلك وحين تعاتبهم او تلومهم يقولون لك أنهم لم يجدوا فى حياتهم أى قضية أخرى تستحق الاهتمام والانشغال .. فالسياسة فاسدة والبرلمان مزور وليست هناك وظيفة إلا بالوساطة التى لا يملكونها ولا أحلام أخرى ممكن تحقيقها فى هذا الزمن الصعب أو المستحيل .. وبالتالى بات النادى بالنسبة لهم هو البديل عن كل الذى ضاع أو يكاد يضيع.
أما البعض الآخر فهم يقومون بذلك أو بتظاهرون به سواء هربا من فراغ وملل أيامهم أو بحثاً عن أى دور أو أهمية حتى وإن كانت مصطنعة .. الواحد منهم أو الواحدة يدرك جيداً أنه لم يتعب فى حياته وليس أصلاً على استعداد ليتعب من أجل تحقيق أى شىء .. الأسهل من التعب وعناء البحث عن حلم ومعاناة محاولة تحقيقه هو الجلوس أمام شاشة كمبيوتر ومع فنجان قهوة وسيجارة أو زجاجة كولا.
الأسهل من التعب وعناء البحث عن حلم ومعاناة محاولة تحقيقه هو الجلوس أمام شاشة كمبيوتر ومع فنجان قهوة وسيجارة أو زجاجة كولا
يبدأ هو أو تبدأ هى الجهاد المقدس فى إظهار وتجسيد الحب للنادى والانتقاص بكل الصور والوسائل الممكنة من قيمة النادى الآخر واعتباره وكرامته .. صور وعبارات وشعارات وقصص حقيقية أو ملفقة واتهامات وشتائم وسخرية لا أول لها ولا آخر .. وليس لى أى اعتراض على ذلك .. سواء على الذين اختاروا هذا الطريق ظنا منهم بأنه لم يعد هناك فى حياتهم أى بديل آخر .. أو الذين اختاروا الكرة بحثا عن دور ومعنى ووجاهة وأهمية.
ولكننى فقط أصبحت أخشى ألا يبقى الأمر مقصوراً على ذلك .. وإنما يؤدى أو يسهم فى صناعة تلك القنبلة التى أوشكت على الانفجار .. أصبحت أخشى كل هذا الهزل الذى باتت تفيض به المدونات وصفحات الفيس بوك والتعليقات الغاضبة والساخرة المغموسة بالحقد والكراهية والتعصب لأنه اقترب كثيراً وجداً أن يصبح واقعاً تعيشه الشوارع قبل الملاعب وحرباً أهلية فى البيوت والميادين وليال طويلة مظلمة قادمة.
ولا أعرف على أى أساس بات كل هؤلاء أياً كانت مقاصدهم أو دوافعهم يتصورون كرة القدم هى الحياة التى يجب عليهم أن يعيشوها .. أو أن الأهلى والزمالك وبقية الأندية بدائل لوطن حقيقى .. فالذى أعرفه أن أياً من هؤلاء المتعصبين الآن - مهما كان ولعه واهتمامه وانشغاله وحماسته لكرة القدم - فلن يكون أبداً مثل محمد أفندى ناشد.
هذا الرجل هو أول مصرى يهتم بكرة القدم ويحاول أن يجد لها دوراً سياسياً واجتماعياً .. فقد كان موظفاً إدارياً بورش معسكرات الجيش الانجليزى فى العباسية .. وعاشقاً لكرة القدم .. وقرر أن تكون الكرة هى المجال الذى يمكن ان ينتصر فيه المصريون على الإنجليز الذين يحتلون بلاده.
وبالفعل نجح محمد أفندى ناشد فى تأسيس أول منتخب فى تاريخ مصر اسمه "التيم المصرى" .. وبعدما أتم التيم المصرى استعداداته .. لعب مع الأورنس - أقوى فريق إنجليزى فى مصر وقتها - مباراة تاريخية عام 1895 فى ملعب قرة ميدان بالقلعة.
المصريون الذين يكرهون الإنجليز كمستعمرين وطغاة وظالمين وأعداء .. قرروا أن يلعبوا معهم مباراة كرة ليفوزوا عليهم بحثاً عن فرحة غائبة
المصريون الذين يكرهون الإنجليز كمستعمرين وطغاة وظالمين وأعداء .. قرروا أن يلعبوا معهم مباراة كرة ليفوزوا عليهم بحثاً عن فرحة غائبة وتأكيداً لكبرياء واعتزاز بالانتماء .. ورغم ذلك .. لم تكن هناك إهانة لأى أحد.
وحين أطلق الحكم الانجليزى ـ الموظف بهيئة السكك الحديدية ـ صفارة النهاية معلناً فوز التيم المصرى على فريق الأورانس الانجليزى بهدفين أحرزهما محمد أفندى ناشد وأحمد أفندى رفعت .. كانت لحظة فاصلة فى تاريخ الكرة المصرية .. ولحظة جميلة واستثنائية أيضاً فى حياة المصريين حتى اولئك الذين لا علاقة لهم بكرة القدم.
الصحف التى كانت لا تكتب عن الكرة وأخبارها كتبت عن هذا الانتصار .. المقاهى تغنت بهذا الانتصار .. البيوت والشوارع والحوارى .. الكبار والنساء والعواجيز والأطفال فى المدارس .. انقلبت الدنيا .. كأن المصريين جميعهم ـ بمن فيهم محمد أفندى ناشد نفسه ـ اكتشفوا فجأة أن هزيمة الانجليز ممكنة .. وأن هناك وسيلة للسخرية منهم ومقاومتهم دون رصاص أو مشاجرات أو عنف ودماء.
لكن ذلك كله أصبح يجرى الآن حين يلعب المصريون مع مصريين مثلهم .. والكل فى الملعب والمدرجات وأمام التليفزيون يتقاسمون نفس الهموم والمواجع والاحباطات والانكسارات ..
المصريون فى الماضى حين لعبوا مع أعدائهم لم يفكر أحداً منهم أن يحيل ملعب الكرة إلى ميدان قتال .. لكنهم حين يلعبون اليوم مع المصريين .. يفيض كل شىء بالتوتر والعنف والكراهية
المصريون فى الماضى حين لعبوا مع أعدائهم لم يفكر أحداً منهم أن يحيل ملعب الكرة إلى ميدان قتال .. لكنهم حين يلعبون اليوم مع المصريين .. يفيض كل شىء بالتوتر والعنف والكراهية والدم والرفض .. وكل ذلك نهايته الموت .. فلا كرة القدم تصلح بديلا لوطن أو حياة .. ولا احترام لمن يتباهى بأن الأهلى هو وطنه الحقيقى أو الزمالك .. ولا هم شهداء الذين يريدون الموت ليعيش ويبقى الأهلى أو الزمالك .. ولا ادنى تقدير أو احترام لمن بدأوا التخطيط لحرب القمة المقبلة وكأنها معركة الشرف.
الشرف الحقيقى لن يأتى به انتصار الأهلى أو الزمالك .. والنجاح الحقيقى يأتى به عمل وتعب وحلم وإصرار وإرادة ومشاوير حقيقية، وليس مجرد التفكير والتخطيط لإيذاء الآخر والاستمتاع بإهانته أو جروحه ودموعه أو حتى نهايته.