الجاهلية في كتب التاريخ :
المؤلفات التي تحدثت عن جاهلية ما قبل الإسلام - سواء في الكتب المؤلفة عن سيرة النَّبِيّ صلى اللَّه عليه وسلم ، أو في المؤلفات التاريخية العامة - لا تعرض لها ( أي للجاهلية ) عرضاً وافياً ، وإن أفاضتْ وفصّلتْ ؛ ذاك أنها تَعْرِض مظاهر تلك الجاهلية أكثر ممَّا تعرض لجوهرها . فكل ما يرد في تلك المؤلفات عن عرب الجاهلية – مثلاً – أمور تقليدية ملخصها : أنهم يعبدون الأصنام ، ويئدون البنات، ويشربون الخمر ، ويلعبون الميسر ، ويقومون بغارات السلب والنهب .. إلخ ، فجاء الإسلام فنهاهم عن ذلك . وهذا فيه إيحاء بأن الإسلام استنفذ أغراضه، ولم يُعد له دور يؤديه لا للمسلمين ولا لبقية الناس ، فالدارس لن يرى الأصنام الحسية تعبد ، ولا يجد أحداً يئد البنات ، أمَّا الأمور الأخرى فرغم تحريم الإسلام لها فإن الناس يقعون فيها بسبب ضعفهم البشري أمام المغريات والشهوات والأهـواء .
المفهوم الشرعي للجاهلية :
استخدم العرب قبل الإسلام الجهل ومشتقاته في معنيين اثنين هما : الجهل ضد العلم، والجهل ضد الحِلْم . أمَّا لفظ الجاهلية فهو مصطلح إسلامي صرف ، لم يستخدمه العرب قبل الإسلام لا في كلامهم ، ولا في أشعارهم وخطبهم .
فالجاهلية في القرآن والسنة لفظ يختص بمعنى معين ، بحيث لا ينصرف ذهن السامع عند ذكره إلا إلى ذلك المعنى ، وإن كان يدخل في إطار المعنى اللغوي والعام له . فالصلاة - مثلاً - في اللغة معناها الدعاء ، ولكنها في الإسلام تعني الهيئة التي يقف فيها العبد بين يدي مولاه كما بيّنها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم.وقُل مثل ذلك عن الزكاة والإيمان والكفر وغيره ممَّا صار له معنى معين في الدين الإسلامي (1)
ولفظ الجاهلية هو في الأصل صفة ، ولكن غلب عليه الاستعمال حتى صار اسماً ، وقد يكون اسماً للحال ، وهو الغالب في الكتاب والسنة ، وقد يكون اسماً لذي الحال ، فتقول : طائفة جاهلية ، وشعر جاهلي . ونحو ذلك (2) .
والمتتبع للجاهلية وما تفرع عنها من ألفاظ في القرآن والسنة يجد مفهومها يتركز في الجهل بحقيقة الألوهية وخصائصها ، أو في الدلالة على الحياة بسلوك غير منضبط بالضوابط الربانية . ويمكن أن نجمع هذين المعنيين بتعبير آخر شامل ، فنعرف الجاهلية بأنها الجهل بدين اللَّه ، والجهل بشرعه ، إمَّا علماً أو عملاً . وعلى هذا فكل ما خالف الشرع فهو جهل وجاهلية .
ومن الآيات التي جاء فيها لفظ الجاهلية الدال على الجهل بحقيقة الألوهية وخصائصها قوله سبحانه عن طائفة تصورت - حين قُتل من المسلمين من قُتل يوم أُحد - أن ثمة من يمكن أن يشارك اللَّه تعالى في تدبير الأمر ( يظنون باللَّه غير الحق ظن الجاهلية يقولون هل لنا من الأمر من شيء ) ، ولذلك رد عليهم سبحانه بقوله : ( قل إن الأمر كله لله ) ، وحين مر بنو إسرائيل بقوم يعكفون على أصنام لهم قالوا لنبيهم موسى عليه السلام - فيما أخبر اللَّه تعالى - : [ اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة ] رد عليهم موسى عليه السلام - كما قال سبحانه- : [أنكم قوم تجهلون ] . أي تجهلون عظمة اللَّه ، وما يجب أن ينزه عنه من الشريك والمثيل .
أمَّا لفظ الجاهلية الدال على الحياة بسلوك غير منضبط بالضوابط الربانية ، فقد وردت فيه عدة آيات قرآنية وأحاديث نبوية . فلقد وصف اللَّه سبحانه ما داخل نفوس الكفار من عصبية لدينهم الباطل في غزوة الحديبية بقوله : [ إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية ] ، وحين نهى سبحانه نساء المؤمنين عن التبرج باللباس قرنه بتبرج الجاهلية ، فقال : [ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى ] ، كذلك اُعتبر الحكم بغير ما أنزل اللَّه بأنه حُكْمُ جاهلية ، فقال تعالى : [ أفحكم الجاهلية يبغون ؟ ].
ثم إن مقترف الفاحشة جُعل في عداد الجاهلين ، كما ورد على لسان يوسف عليه السلام في قوله تعالى : [ وإلا تَصْرِف عني كيدهن أَصْبُ إليهن وأكن من الجاهلين ] . أمَّا الرسول –صلى اللَّه عليه وسلم- فقد أطلق لفظ الجاهلية على عدد من الأفعال غير المنضبطة بالضوابط الربانية ، منها قوله للذي عَيَّر أخاه المسلم بأمه ، معتزاً عليه بالنسب العربي : ( إنك امرؤٌ فيك جاهلية ) . ومنها استنكاره –صلى اللَّه عليه وسلم- استنكاراً شديداً استغاثة أحدهم بالقول: ( يا للمهاجرين ) ، والآخر بـ ( يا للأنصار ) ، وعد ذلك تعصباً مقيتاً من دعاوى الجاهلية رغم أن التسمية بالمهاجرين والأنصار تسمية إسلامية خالصة ، ولكن لما صارت في هذا الموقف عصبية لفئة على فئة اعتبرها جاهلية فقال : ( أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم ) ومنها أيضاً اعتباره -صلى اللَّه عليه وسلم- الفخر بالأحساب ، والطعن بالأنساب والاستسقاء بالنجوم ، والنياحة أموراً جاهلية .